أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

ضعف التعبد - الأسباب والعلاج


ظاهرة ضعْف التعبُّد ظاهرةٌ مشاهَدة على الكثير منَّا، بل الأكثر من العامة والخاصة، سواء كانتْ تقصيرًا في الواجبات، أو عدمَ حفْظِ الجوارح عما حرَّم الله، أو تقصيرًا في النوافل مِن صلاةٍ وصيام، وذِكْرٍ وغير ذلك، وأحاول في هذه الخُطبة أن أذكُر أهمَّ أسباب ضعْف التعبُّد، مع ذكْر العلاج؛ والغرَض من ذلك أنْ نتعرَّفَ على مواطن الخلَل عندنا، ومِن ثمَّ نسعى للإصلاح.

 

فمِن أسباب ضعْف التعبُّد عندَ البعض منا: عدمُ بذْل الأسباب التي تُعِينُه على الخير، فتجده يَكْتفي بذمِّ نفسه والعتْب عليها، لكن لا يبذل وُسْعَه في الأخْذ بأسباب الترقِّي في مراتب الكمال.

 

فمثلاً: مَن يتأخَّر عن صلاة الفجر، يعلم أنَّ من أهم أسباب تأخُّره سهرَه الطويل، فلا يأخذ بالحزْم وينام مبكرًا؛ ليستيقظَ لصلاة الفجر، ومَن يرتكب بعضَ المحرَّمات يعلم أنَّ من أقوى الأسباب التي تجعله يستمرُّ على المعصية الرُّفقةَ التي يجالسها، ويَسمُر معها، ويشترك معها في الرَّحلات، ولا يحاول استبدالَ رفقة صالحة بهذه الرفقة تُعينه على الخير.

 

فمهما بلغ الشخصُ من الكمال، فالرفقة لها أثرٌ عليه في قوَّة إيمانه، ورغبته في الآخرة، أو العكس، وكلَّما بعُد عمَّن يعينه على الخير ويذكِّره بالآخرة، شَعَر بفُتور عن العبادة؛ فعن حنظلةَ بن الربيع الأُسَيْدي قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنتَ يا حنظلة؟ قال: قلتُ: نافَقَ حنظلةُ! قال: سبحان الله، ما تقول؟! قال: قلت: نكون عندَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُذكِّرنا بالنار والجنة حتى كَأَنَّا رَأْيُا عين، فإذا خرجْنا من عند رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عافسْنا الأزواجَ والأولاد والضَّيْعات، فنَسِينا كثيرًا، قال أبو بكر: فواللهِ إنَّا لنلقَى مثل هذا، فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلْنا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قلت: نافَقَ حنظلة يا رسولَ الله، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تُذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كَأَنَّا رَأْيُعين، فإذا خرجْنا مِن عندك عافسْنا الأزواج والأولاد والضيعات، نَسينا كثيرًا، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيدِه، إنْ لو تدومون على ما تكونون عِندي وفي الذِّكر، لصَافحتْكم الملائكةُ على فُرُشِكم وفي طُرقكم، ولكن يا حنظلةُ، ساعةً وساعةً - ثلاثَ مرات))؛ رواه مسلم (2750).

 

ومِن أسباب ضعْف التعبُّد عندَ البعض منا: التواني والتسويف، فتجد البعضَ عنده رغبةٌ في الخير، ويُمنِّي نفسَه بتغيير واقعه؛ لكنه يؤجِّل التنفيذ غدًا وبعدَ غد، وهكذا، له فترة طويلةٌ على هذا الحال، وربما يموت وغدًا لم يأتِ!

 

ولْيحذرْ أن يكونَ ممَّن ذكرهم الله بقوله - تعالى -: ﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 14]، ففتنوا أنفسَهم بالمعاصي والشهوات ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾؛ أي: أخَّرتُم التوبةَ من وقتٍ إلى وقت ﴿ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ﴾؛ أي: قلتم: سيغفر لنا، فلْنبادرْ بالطاعة، ونَدَعِ التسويف.

 

ومِن أسباب ضعْف التعبُّدِ عند البعض منا: عدمُ التنبُّه إلى أنَّ باب التقصير ليس له نهاية، وأنه كلَّما قصَّر في بابٍ مِن أبواب الخير، طالبَه الشيطانُ بالمزيد، حتى يُخرجَه مِن دِينه إن استطاع.

 

فهَديُ النبي المداومةُ على العمل، فكان إذا عمِل عملاً أثبتَه، فكذلك يَنبغي لمُحبِّه، ومَن يرغب أن يَرِدَ حوضَه، ويحظى بشفاعته يوم القيامة، فلا بدَّ من مجاهدة النفس في المحافظة على ما اعتدْناه مِن خير، ولو فات هذا الخيرُ بعذرٍ نقضيه ولو خَرَج وقته؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعتكف في العشْر الأواخر من رمضان، فكنت أَضرِب له خباءً، فيصلي الصبحَ ثم يدخله، فاستأذنتْ حفصةُ عائشةَ أن تضرب خباءً، فأذِنتْ لها فضربتْ خباءً، فلما رأتْه زينب ابنة جحش ضربتْ خباءً آخَر، فلمَّا أصبح النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى الأخبية، فقال: ((ما هذا؟))، فأُخبر، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((آلْبرَّ تُرَوْن بهنَّ؟))، فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشرًا مِن شوال"؛ رواه البخاري (2033)، ومسلم (1173).

 

فلمَّا لمْ يعتكفِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العشر الأواخر من رمضان، قضاه في شوال، وكذلك قضَى قِيامَ الليل ضحًى، وقضى راتبةَ الفجر بعدَ طلوع الشمس، وقضى راتبةَ الظهر بعدَ العصر، ففي الجُملة: مَن فاته بعُذر نفلٌ معيَّن اعتاده، يُستحبُّ أن يقضيَه بعدَ خروج وقته.

 

ومِن أسباب ضعْف التعبُّد عند البعض: اعتناؤه بالشيء الحاضر الذي ينال ثمرتَه في الحال، أمَّا موعود الآخرة الآجِل، فلا تَنشَط نفسُه إليه كما تنشَط نفسه للثمرة في الحال، فمثلاً بناء بيْت فسيح حُلمٌ يراود الجميعَ، ويَقضي البعض جُلَّ عمره في تحقيق هذا الحُلم: أولاً: في تحصيل قِيمة الأرض، ثم انتظار صُندوق التنمية، ثم البناء، ثم يَقضي أغلبَ ما بقي من عمرِه في سَداد الأقساط، فيتحمَّل الكثير، وربما قتَّر على نفسه وعلى أهله؛ لتحقيق هذا الحُلم.

 

وبناء بيْت في الجنة لا يخطُر على البال، مهما اتَّسع الخيال، بعملٍ يسير تجد أنَّ البعض منا مفرِّط فيه، ويتثاقل المداومةَ على ثمنه، وهو ثِنتا عشرة ركعة تَطوُّعًا يوميًّا: أربع قبلَ صلاة الظهر، وركعتان بعدَها، وركعتان بعدَ المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر.

 

روى مسلم (728) بإسناده عن النُّعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، قال: حدثني عنبسةُ بن أبي سفيان، قال: سمعتُ أمَّ حَبيبةَ تقول: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً في يوم وليلة، بُنِيَ له بهن بيتٌ في الجنة))، قالت أمُّ حبيبة: فما تركتُهنَّ منذ سمعتهنَّ مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال عنبسة: فما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ مِن أمِّ حبيبة، وقال عمرو بن أوس: ما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ مِن عنبسة، وقال النعمان بن سالم: ما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ مِن عمرو بن أوس.

 

إخوتي، فهل نقول مثل ما قال هؤلاء: فلن نتركهنَّ منذ سمعْنَا الحديث؟!

ومِن أسباب ضعْف التعبُّد، وارْتكابِ المحرَّمات: كثرةُ المعاصي والمداومة عليها، فالنفْس تُنكِر المعصية أولاً؛ لما فيها من قوَّة الإيمان، فإذا عاودها الشخصُ مرَّة ثانية، قلَّ التأثُّرُ بها وبغيرِها من المعاصي، فالمعاصي تُظلِم القلبَ، وتحجب عنه مخافةَ الله، فيتبلَّد حسُّه؛ بل حينما يتربَّع الشيطان على قلْبه، تنتكس فِطرته، فيرى الحقَّ باطلاً، والباطلَ حقًّا، فعن حذيفة: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((تُعرَض الفِتن على القلوب كالحصير عُودًا عودًا، فأيُّ قلْب أُشرِبها نُكِت فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلْب أَنكرها نُكت فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيضَ مِثْل الصفا، فلا تضرُّه فِتنة ما دامت السموات والأرض، والآخَر أسود مُرْبَادًّا - مسودًّا قد أظلم بسبب كثرة المعاصي - كَالكُوزِ مُجَخِّيًا - مائلاً فلا يستقرُّ فيه الماء - لا يَعرِف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشرِب مِن هواه))؛ رواه مسلم (144).

 

ومِن أسباب ضعْف التعبُّد عند البعض: متابعة المقصِّرين ممن يُفترَض فيهم القدوة، فتجد البعضَ يتكاسل عن أبواب الخير، أو يقع في المحظور، بحُجَّة أنَّ فلانًا من أهل الخير يفعل كذا وكذا، ولا شكَّ أنَّ هذا هو عيْن الخطأ؛ فالبشر ليسوا محلَّ قدوة مطلقة؛ بل يُقتدَى بهم على قدْر متابعتهم للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أما القُدوة المطلَقة، فهو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلنا فيه أُسوةٌ حَسَنة، ثم من تراه قُدوةً لماذا تقتدي به في عثراته، وتترك الاقتداء به في أبواب الخير الكثيرة؟! فخُذْ ما عنده من خير، ودَعْ هفواته.

 

ومن هنا، ينبغي على مَن يُقتدَى به؛ إما لعِلمه كطلاَّب العلم، أو لعبادته كالصالحين، أو لوظيفته الدِّينية كالقاضي وإمام المسجد، أو لكِبر سِنِّه كالأب والأمّ، أو لعَمله التربوي كمَن يعمل في مجال التربية، أو لكونه رئيسًا في دائرته أو قسمه - على هؤلاء وعلى غيرهم ممَّن يُقتدَى بهم أن يعوا أنهم محطُّ أنظار غيرِهم، وأنَّهم يؤثِّرون بحالهم أكثرَ من تأثيرهم بمقالهم، وأنهم إذا وقَعوا في الخطأ، أو ترَكوا الواجب، كان الأمر أعظمَ من غيرهم؛ لأنَّ خطأهم يتعدَّى ضررُه إلى غيرهم.

 

الكلُّ يحب أن يبلغ الكمال في مراتبِ الدين، وأن يكونَ من أفضلِ الناس في دِينه؛ فِعْلاً للمأمورات وتركًا للمنهيات؛ لأنَّه يدرك أنَّ كثيرًا من الأشياء التي تضرُّه في دُنياه قبل دِينه، وتنغِّص عليه حياتَه، وتجلب له الهمومَ وعدم الراحة، سببُها تقصيرُه في حقِّ سيده ومولاه.

 

وتَظهر هذه المحبةُ حينما يُناقَش أحدُ المقصِّرين - وكلنا ذلك الرجل - تجده يعترف بالخطأ، ويصارحك بأنه يتمنَّى أن يُبدَّل حالُه، ويحبُّ أن يكون مثل فلان الصالح؛ لكنِ الأمانيُّ وحدها لا تكفي، فلا بدَّ من مجاهدة النفس في البدايات؛ لفَطْمِها عن عاداتها التي تُعيقها عن السَّيْر إلى الله، وتحمُّلِ المشاقِّ التي لا يُتوصَّل للعبادة إلا بها؛ فالأصل أنَّ الشهوات محبَّبة للنفوس، والعبادة ثقيلة على كثيرٍ من النفوس؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((حُجبتِ النار بالشهوات، وحُجِبت الجنَّة بالمكاره))؛ رواه البخاري (6487).

 

ثم بعدَ الفَطام وبعد المجاهدة - وغالبًا لا تطول - تطمئنُّ النفس، وتألَفُ العبادةَ والأماكنَ التي يحبُّها الله، فيكون محبوبَ النفس تبعًا لمحبوب سيِّدها وخالقها، واسألوا - إنْ شئتم - مَن يبادر إلى الصلاة، بل مَن ينتظر الصلاة بعدَ الصلاة: كيف يجد نفسَه، وهل يشعر بالضِّيق أثناءَ انتظار الصلاة، أو يشعر بالفرَح وانشراح الصَّدْر والسعادة؟

 

إخوتي، هذه بعضُ الأسباب التي تجعل الواحدَ منا ضعيفًا في عبادته، مقصِّرًا في حقِّ ربه، يشعر أحيانًا بتأنيب الضمير، وعدم الرِّضا عن النفْس، فلننظرْ هل هذه الأسباب كلها أو بعضها عندنا، ولْنبادرْ في عِلاج النفْس؛ فحاجة الرُّوح إلى الطبيب أشدُّ مِن حاجة البدن إلى الطبيب، وعِلاج النفوس في كتاب ربِّنا، وسُنَّة نبينا بفَهْم علمائنا الربانيِّين
ظاهرة ضعْف التعبُّد ظاهرةٌ مشاهَدة على الكثير منَّا، بل الأكثر من العامة والخاصة، سواء كانتْ تقصيرًا في الواجبات، أو عدمَ حفْظِ الجوارح عما حرَّم الله، أو تقصيرًا في النوافل مِن صلاةٍ وصيام، وذِكْرٍ وغير ذلك، وأحاول في هذه الخُطبة أن أذكُر أهمَّ أسباب ضعْف التعبُّد، مع ذكْر العلاج؛ والغرَض من ذلك أنْ نتعرَّفَ على مواطن الخلَل عندنا، ومِن ثمَّ نسعى للإصلاح. فمِن أسباب ضعْف التعبُّد عندَ البعض منا: عدمُ بذْل الأسباب التي تُعِينُه على الخير، فتجده يَكْتفي بذمِّ نفسه والعتْب عليها، لكن لا يبذل وُسْعَه في الأخْذ بأسباب الترقِّي في مراتب الكمال. فمثلاً: مَن يتأخَّر عن صلاة الفجر، يعلم أنَّ من أهم أسباب تأخُّره سهرَه الطويل، فلا يأخذ بالحزْم وينام مبكرًا؛ ليستيقظَ لصلاة الفجر، ومَن يرتكب بعضَ المحرَّمات يعلم أنَّ من أقوى الأسباب التي تجعله يستمرُّ على المعصية الرُّفقةَ التي يجالسها، ويَسمُر معها، ويشترك معها في الرَّحلات، ولا يحاول استبدالَ رفقة صالحة بهذه الرفقة تُعينه على الخير. فمهما بلغ الشخصُ من الكمال، فالرفقة لها أثرٌ عليه في قوَّة إيمانه، ورغبته في الآخرة، أو العكس، وكلَّما بعُد عمَّن يعينه على الخير ويذكِّره بالآخرة، شَعَر بفُتور عن العبادة؛ فعن حنظلةَ بن الربيع الأُسَيْدي قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنتَ يا حنظلة؟ قال: قلتُ: نافَقَ حنظلةُ! قال: سبحان الله، ما تقول؟! قال: قلت: نكون عندَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُذكِّرنا بالنار والجنة حتى كَأَنَّا رَأْيُا عين، فإذا خرجْنا من عند رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عافسْنا الأزواجَ والأولاد والضَّيْعات، فنَسِينا كثيرًا، قال أبو بكر: فواللهِ إنَّا لنلقَى مثل هذا، فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلْنا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قلت: نافَقَ حنظلة يا رسولَ الله، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تُذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كَأَنَّا رَأْيُعين، فإذا خرجْنا مِن عندك عافسْنا الأزواج والأولاد والضيعات، نَسينا كثيرًا، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيدِه، إنْ لو تدومون على ما تكونون عِندي وفي الذِّكر، لصَافحتْكم الملائكةُ على فُرُشِكم وفي طُرقكم، ولكن يا حنظلةُ، ساعةً وساعةً - ثلاثَ مرات))؛ رواه مسلم (2750). ومِن أسباب ضعْف التعبُّد عندَ البعض منا: التواني والتسويف، فتجد البعضَ عنده رغبةٌ في الخير، ويُمنِّي نفسَه بتغيير واقعه؛ لكنه يؤجِّل التنفيذ غدًا وبعدَ غد، وهكذا، له فترة طويلةٌ على هذا الحال، وربما يموت وغدًا لم يأتِ! ولْيحذرْ أن يكونَ ممَّن ذكرهم الله بقوله - تعالى -: ﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 14]، ففتنوا أنفسَهم بالمعاصي والشهوات ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾؛ أي: أخَّرتُم التوبةَ من وقتٍ إلى وقت ﴿ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ﴾؛ أي: قلتم: سيغفر لنا، فلْنبادرْ بالطاعة، ونَدَعِ التسويف. ومِن أسباب ضعْف التعبُّدِ عند البعض منا: عدمُ التنبُّه إلى أنَّ باب التقصير ليس له نهاية، وأنه كلَّما قصَّر في بابٍ مِن أبواب الخير، طالبَه الشيطانُ بالمزيد، حتى يُخرجَه مِن دِينه إن استطاع. فهَديُ النبي المداومةُ على العمل، فكان إذا عمِل عملاً أثبتَه، فكذلك يَنبغي لمُحبِّه، ومَن يرغب أن يَرِدَ حوضَه، ويحظى بشفاعته يوم القيامة، فلا بدَّ من مجاهدة النفس في المحافظة على ما اعتدْناه مِن خير، ولو فات هذا الخيرُ بعذرٍ نقضيه ولو خَرَج وقته؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعتكف في العشْر الأواخر من رمضان، فكنت أَضرِب له خباءً، فيصلي الصبحَ ثم يدخله، فاستأذنتْ حفصةُ عائشةَ أن تضرب خباءً، فأذِنتْ لها فضربتْ خباءً، فلما رأتْه زينب ابنة جحش ضربتْ خباءً آخَر، فلمَّا أصبح النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى الأخبية، فقال: ((ما هذا؟))، فأُخبر، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((آلْبرَّ تُرَوْن بهنَّ؟))، فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشرًا مِن شوال"؛ رواه البخاري (2033)، ومسلم (1173). فلمَّا لمْ يعتكفِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العشر الأواخر من رمضان، قضاه في شوال، وكذلك قضَى قِيامَ الليل ضحًى، وقضى راتبةَ الفجر بعدَ طلوع الشمس، وقضى راتبةَ الظهر بعدَ العصر، ففي الجُملة: مَن فاته بعُذر نفلٌ معيَّن اعتاده، يُستحبُّ أن يقضيَه بعدَ خروج وقته. ومِن أسباب ضعْف التعبُّد عند البعض: اعتناؤه بالشيء الحاضر الذي ينال ثمرتَه في الحال، أمَّا موعود الآخرة الآجِل، فلا تَنشَط نفسُه إليه كما تنشَط نفسه للثمرة في الحال، فمثلاً بناء بيْت فسيح حُلمٌ يراود الجميعَ، ويَقضي البعض جُلَّ عمره في تحقيق هذا الحُلم: أولاً: في تحصيل قِيمة الأرض، ثم انتظار صُندوق التنمية، ثم البناء، ثم يَقضي أغلبَ ما بقي من عمرِه في سَداد الأقساط، فيتحمَّل الكثير، وربما قتَّر على نفسه وعلى أهله؛ لتحقيق هذا الحُلم. وبناء بيْت في الجنة لا يخطُر على البال، مهما اتَّسع الخيال، بعملٍ يسير تجد أنَّ البعض منا مفرِّط فيه، ويتثاقل المداومةَ على ثمنه، وهو ثِنتا عشرة ركعة تَطوُّعًا يوميًّا: أربع قبلَ صلاة الظهر، وركعتان بعدَها، وركعتان بعدَ المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر. روى مسلم (728) بإسناده عن النُّعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، قال: حدثني عنبسةُ بن أبي سفيان، قال: سمعتُ أمَّ حَبيبةَ تقول: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً في يوم وليلة، بُنِيَ له بهن بيتٌ في الجنة))، قالت أمُّ حبيبة: فما تركتُهنَّ منذ سمعتهنَّ مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال عنبسة: فما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ مِن أمِّ حبيبة، وقال عمرو بن أوس: ما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ مِن عنبسة، وقال النعمان بن سالم: ما تركتهنَّ منذ سمعتهنَّ مِن عمرو بن أوس. إخوتي، فهل نقول مثل ما قال هؤلاء: فلن نتركهنَّ منذ سمعْنَا الحديث؟! ومِن أسباب ضعْف التعبُّد، وارْتكابِ المحرَّمات: كثرةُ المعاصي والمداومة عليها، فالنفْس تُنكِر المعصية أولاً؛ لما فيها من قوَّة الإيمان، فإذا عاودها الشخصُ مرَّة ثانية، قلَّ التأثُّرُ بها وبغيرِها من المعاصي، فالمعاصي تُظلِم القلبَ، وتحجب عنه مخافةَ الله، فيتبلَّد حسُّه؛ بل حينما يتربَّع الشيطان على قلْبه، تنتكس فِطرته، فيرى الحقَّ باطلاً، والباطلَ حقًّا، فعن حذيفة: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((تُعرَض الفِتن على القلوب كالحصير عُودًا عودًا، فأيُّ قلْب أُشرِبها نُكِت فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلْب أَنكرها نُكت فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيضَ مِثْل الصفا، فلا تضرُّه فِتنة ما دامت السموات والأرض، والآخَر أسود مُرْبَادًّا - مسودًّا قد أظلم بسبب كثرة المعاصي - كَالكُوزِ مُجَخِّيًا - مائلاً فلا يستقرُّ فيه الماء - لا يَعرِف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشرِب مِن هواه))؛ رواه مسلم (144). ومِن أسباب ضعْف التعبُّد عند البعض: متابعة المقصِّرين ممن يُفترَض فيهم القدوة، فتجد البعضَ يتكاسل عن أبواب الخير، أو يقع في المحظور، بحُجَّة أنَّ فلانًا من أهل الخير يفعل كذا وكذا، ولا شكَّ أنَّ هذا هو عيْن الخطأ؛ فالبشر ليسوا محلَّ قدوة مطلقة؛ بل يُقتدَى بهم على قدْر متابعتهم للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أما القُدوة المطلَقة، فهو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلنا فيه أُسوةٌ حَسَنة، ثم من تراه قُدوةً لماذا تقتدي به في عثراته، وتترك الاقتداء به في أبواب الخير الكثيرة؟! فخُذْ ما عنده من خير، ودَعْ هفواته. ومن هنا، ينبغي على مَن يُقتدَى به؛ إما لعِلمه كطلاَّب العلم، أو لعبادته كالصالحين، أو لوظيفته الدِّينية كالقاضي وإمام المسجد، أو لكِبر سِنِّه كالأب والأمّ، أو لعَمله التربوي كمَن يعمل في مجال التربية، أو لكونه رئيسًا في دائرته أو قسمه - على هؤلاء وعلى غيرهم ممَّن يُقتدَى بهم أن يعوا أنهم محطُّ أنظار غيرِهم، وأنَّهم يؤثِّرون بحالهم أكثرَ من تأثيرهم بمقالهم، وأنهم إذا وقَعوا في الخطأ، أو ترَكوا الواجب، كان الأمر أعظمَ من غيرهم؛ لأنَّ خطأهم يتعدَّى ضررُه إلى غيرهم. الكلُّ يحب أن يبلغ الكمال في مراتبِ الدين، وأن يكونَ من أفضلِ الناس في دِينه؛ فِعْلاً للمأمورات وتركًا للمنهيات؛ لأنَّه يدرك أنَّ كثيرًا من الأشياء التي تضرُّه في دُنياه قبل دِينه، وتنغِّص عليه حياتَه، وتجلب له الهمومَ وعدم الراحة، سببُها تقصيرُه في حقِّ سيده ومولاه. وتَظهر هذه المحبةُ حينما يُناقَش أحدُ المقصِّرين - وكلنا ذلك الرجل - تجده يعترف بالخطأ، ويصارحك بأنه يتمنَّى أن يُبدَّل حالُه، ويحبُّ أن يكون مثل فلان الصالح؛ لكنِ الأمانيُّ وحدها لا تكفي، فلا بدَّ من مجاهدة النفس في البدايات؛ لفَطْمِها عن عاداتها التي تُعيقها عن السَّيْر إلى الله، وتحمُّلِ المشاقِّ التي لا يُتوصَّل للعبادة إلا بها؛ فالأصل أنَّ الشهوات محبَّبة للنفوس، والعبادة ثقيلة على كثيرٍ من النفوس؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((حُجبتِ النار بالشهوات، وحُجِبت الجنَّة بالمكاره))؛ رواه البخاري (6487). ثم بعدَ الفَطام وبعد المجاهدة - وغالبًا لا تطول - تطمئنُّ النفس، وتألَفُ العبادةَ والأماكنَ التي يحبُّها الله، فيكون محبوبَ النفس تبعًا لمحبوب سيِّدها وخالقها، واسألوا - إنْ شئتم - مَن يبادر إلى الصلاة، بل مَن ينتظر الصلاة بعدَ الصلاة: كيف يجد نفسَه، وهل يشعر بالضِّيق أثناءَ انتظار الصلاة، أو يشعر بالفرَح وانشراح الصَّدْر والسعادة؟ إخوتي، هذه بعضُ الأسباب التي تجعل الواحدَ منا ضعيفًا في عبادته، مقصِّرًا في حقِّ ربه، يشعر أحيانًا بتأنيب الضمير، وعدم الرِّضا عن النفْس، فلننظرْ هل هذه الأسباب كلها أو بعضها عندنا، ولْنبادرْ في عِلاج النفْس؛ فحاجة الرُّوح إلى الطبيب أشدُّ مِن حاجة البدن إلى الطبيب، وعِلاج النفوس في كتاب ربِّنا، وسُنَّة نبينا بفَهْم علمائنا الربانيِّين

شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

إرسال تعليق